لا تعسف في القول أن مشكلة الحرية هي بلا شك من أقدم المشكلات وأعقدها؛ حقا إن مشكلة الحرية هي قفل الميتافيزيقا الذي علاه الصدأ من كل جانب -على حد تعبير الفيلسوف الانجليزي بين – Bain ولكنها قد اكتسبت أهمية جديدة في الفلسفة المعاصرة بحيث قد يكون من الممكن أن نعدها مفتاح المشكلات جميعا.
وعليه؛ فالحرية هي واحدة من أكثر المفاهيم الفلسفية أهمية في التطور العام للتاريخ البشري، إذ لا يكاد يوازيها في الأهمية والخطورة مفهوم آخر. ولخطورة المفهوم وأهميته فقد صار البحث فيه معقدا لحدود قصوى، وذلك راجع بالأساس لاختلاف أنظار الفلاسفة عبر التاريخ الإنساني الطويل حول حده وتعريفه وتعيين مستوياته ومجالاته وضوابطه وصوره المختلفة. فلقد طرحت مسألة الحرية عبر مسار التاريخ ومازالت، ولكن مفهومها كان يختلف في كل مرحلة، ومن مجتمع لآخر، فكان طبيعيا أن يأتي التعبير العربي والإسلامي عن الحرية متسقا مع الخصوصية الثقافية والحضارية العربية/الإسلامية، ومستندا للمرجعية الفكرية العربية والإسلامية التي يصدر عنها، كما كان من الطبيعي الحديث عن تعددية في الاجتهاد والنظر في هذه المسألة داخل التيارات العربية/ الإسلامية
لقد أبدى التيار الإسلامي حرصا على التميز في التعامل مع مفهوم الحرية، وتقديم فهم يختلف عنه في المجال التداولي الآخر، عنينا الغربي؛ فبينما يسعى هذا الأخير لمفصلة مفهوم الحرية في ضوء قوانين الطبيعة وإكراهاتها، وقوانين التاريخ والبحث عن مساره والتساؤل عن الحتمية والتقدم والهادفية، والعلاقة بين الفرد والمجتمع والبحث في علاقات السُلطة، ينظر المُسلم لمفهوم الحرية الإنسانية وهو يأخذ في اعتباره – إضافة لهذه المعاني – الفعالية الإلهية في الكون، فحتّى الخلاف الشهير بين المعتزلة والأشاعرة في قضية خلق الأفعال لم يُلغِ فيه أي من الطرفين الفعالية الإلهية في الكون، كما أكدت جميع الفرق الكلامية على أهمية هذه النقطة.
والسؤال هنا؛ كيف سيكون وضع الحرية في إطار المرجعية الإسلامية؟ وهل لجوء الخطاب الإسلامي للمواءمة مع الواقع الخاضع للمؤثرات الغربية، يجعله قادرا على التكيف مع المفاهيم العصرية المطروحة في مسألة الحريات؟ أسئلة تكتسب شرعيتها بالنظر لعديد الإشكالات التي يعاني منها التراث الإسلامي في مجال الحريات من جهة (كمسألة الردة وحق التعبير والحرية الفكرية، والالتباس التاريخي والثقافي عندنا لما نضع مسألة الحرية في سياق وجوب تطبيق الشريعة، ولنا في الأخذ بحكم الردة قديما وحديثا خير شاهد على صحة القول). وتلك التي يعاني منها تاريخنا السياسي من جهة ثانية (كالإيديولوجيا الجبرية التي سعى المنظرون لها إلى سلب الإنسان من كل قدرة على الاختيار، وأنه بالتالي مسير في كل شيء، ولا بد أن يطيع كل صاحب سلطان، ذلك أن مشيئته هي من مشيئة الله).
تأتي الدراسة -إذاً- بهدف تتبع تطور الخطاب الإسلامي في مسألة الحرية متخذين من الحرية في فكر أبي القاسم حاج حمد أنموذجا، محاولين من خلالها سد فراغ ظل تراثنا المدون بالعربية يعانيه؛ إذ لا نلمس اهتماما بدراسة تطور الخطاب الإسلامي في مسألة الحرية فهناك مجرد حديث عام ومجزء حولها، وتكاد تنعدم الدراسات المعمقة والمتخصصة، مع أن هذا لا يعني عدم ورود إشارات حولها في بعض دراسات تاريخ الفكر العربي الحديث، لكنها تتحدث عن المسألة في سياق الحديث عن أسباب التأخر أو التقدم مثلا، أو في سياق الحديث عن العلاقة بالغرب، أو غير ذلك. إضافة إلى بعض الدراسات الأكاديمية التي درست المسألة بشكل يكتنفه الكثير من التعميم وتنقصه الروح العلمية المنصفة، أو يغلب عليها الطابع الصحفي، فبقيت تلك الدراسات أسيرة لمواقف أيديولوجية مسبقة، أو أسيرة لآراء متحيزة يجري تداولها كمسلمات.